كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال بعضهم: إن الفاء هنا زائدة، لأنها إما للعطف وإما للجزاء وهما لا يصلحان هنا، فكانت زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وقال الفخر الرازي: ويمكن أن يقال: إن الفاء هنا ليست زائدة، بل هي للجزاء، فإنه تعالى لما بيّن كون رمضان مختصّا بالشرف العظيم، وهو إنزال القرآن فيه، وهو شرف لا يشاركه فيه سائر الشهور، فهو لذلك يناسبه أن يختص بهذه العبادة، ولذلك تقدّم وصفه بخاصة إنزال القرآن فيه، كأنه قيل: وإذا كان رمضان مختصا بهذه الفضيلة فخصّوه أنتم بهذه العبادة.
شَهِدَ: حضر، والشهود الحضور. ثم هنا قولان:
أحدهما: أنّ مفعول شهد محذوف، لأن المعنى: فمن شهد البلد في الشهر بمعنى أنه لم يكن مسافرا. ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.
والقول الثاني: أن مفعول شهد هو الشهر، والتقدير: فمن شهد الشهر وشاهده بعقله وبمعرفته فليصمه، وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركته، وهو تفسير لا غبار عليه بعد أن تعرف أن خطابات اللّه جميعا تتوجّه إلى المكلفين، فلا عبرة بما قيل: إنه كالأول فيه مخالفة للظاهر لاحتياجه للتخصيص، إذ يقال: للصبي المجنون إنه أدرك الشهر، نعم هم مدركون، ولكنّهم لا يدخلون تحت قوله: {مِنْكُمُ} إذ إنّ كون كل خطابات الشارع متوجهة إلى من يأتي تكليفهم قد فرغ منه، فمثله مثل {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [البقرة: 43، 83، 110] على أنه على فرض دخول هؤلاء، فالآية تكون مخصوصة على هذا الوجه. وعلى الوجه الأول فيها تقدير محذوف.
وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعيّن المصير إلى التخصيص، وبدهي أن القول الأول يلزمه أن الآية لا توجب الصوم إلا على المقيم، فلا يكون صوم المسافر مسقطا للواجب، بل يكون الواجب في حقه الفطر، وهذا كلام قد نسب إلى الإمام علي- كرم اللّه وجهه- القول به. والجمهور يرون الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخّص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر.
هذا وظاهر الآية يفيد أن الصيام إنما يجب بشهود جميع الشهر، وذلك غير متأتّ، إذ إنّ شهود جميع الشهر لا يتأتّى إلا بعد انقضائه، وبعد انقضائه لا يتأتى لأحد أن يصوم ما مضى، فمن هنا قالوا: إنه يتعين أن يكون المعنى فمن شهد بعض الشهر فليصمه، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: المراد بالبعض أوّل الشهر. وهو منسوب للإمام علي، وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم أن يكون الحكم في حق من كان مسافرا أوّل الشهر أنه لا يجب عليه صيام الشهر، بل يجب عليه الفطر.
ويرى الجمهور أن أيّ بعض يكفي في وجوب الصوم، غير أنهم اختلفوا، فالحنفية يرون أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أيّ جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء على الراجح من مذهبهم.
بعد هذا نقول: إنّ الأئمة رضوان اللّه عليهم قد اختلفوا فيمن جنّ في رمضان، ولابد أن نعرض لهذا الخلاف فنقول: اتفقوا على أنّ من جنّ كلّ رمضان لا يجب عليه الصوم في الحال، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليه حالا، واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان، قال المالكية وجماعة: إنه يقضي ما مضى ولو جنّ سنين. وقال غيرهم:
إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم.
وأما من كان مجنونا في رمضان، وأفاق بعضا منه، فالشافعية على أصحّ الأقوال عندهم أنه يصوم ما شهد فقط، ولا قضاء عليه لغيره، ومن أفاق في أثناء النهار اختلف في تكليفه بالقضاء عندهم.
وترى الحنفية أن شهود أي جزء من الشهر موجب صيامه كلّه.
وقد قالوا: إنّ الآية تشهد لهم، لأنّك قد علمت أنّ إجراءها على ظاهرها محال، فلابد من تقديره البعض، فيكون المعنى عندهم فمن شهد بعض الشهر فليصمه جميعه.
فإن قيل لهم: لما ذا قدّرتم البعض في الأول، ولم تقدروه في الثاني؟
قالوا: إنا لجأنا للإضمار للضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها، وقد اندفعت بإضمار في الأول، مع بقاء الثاني على حاله.
ولكن لقائل أن يقول لهم: إن الضمير في قوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ} راجع إلى ما قبله، فإن كان ما قبله مراد منه الجميع، كان هو مرادا منه الجميع، وإن كان البعض كان مرادا منه البعض، أما إن أريد بالمرجع شيئا وبالضمير غيره فهو غير ظاهر.
وقد أورد على الحنفية ما يأتي: معقول أنه إذا أفاق أثناء الشهر أن نوجب عليه ما بقي في الشهر بعد ذلك، لكن غير معقول أن نوجب عليه صوم ما مضى، لأنّ شهود الجزء لا يتأتّى أن يكون سببا لصوم ما قبله، وإلا كنا قد كلفناه الصوم قبل وقته.
وقد أجابوا عن هذا بأنّا نوجب عليه قضاء الأيام الماضية لا صومها هي، وجائز إلزامه القضاء مع امتناع خطابه وقت الأداء، كالمغمى عليه والناسي والنائم.
وقد اختلف العلماء أيضا في الصبي يبلغ والكافر يسلم في بعض رمضان، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك بن أنس في الموطأ وعبد اللّه بن حسن، والليث، والشافعي: إنهما يصومان ما بقي، وليس عليهما قضاء ما مضى ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام.
وقال ابن وهب عن مالك: أحبّ إليّ أن يقضياه.
وقال الأوزاعي في الغلام يبلغ في النصف من رمضان: إنه يقضي ما مضى، فإنه كان يطيق الصوم.
وقد علمت أن شرط التكليف بالصوم البلوغ والعقل والإسلام، والصبي والكافر لم يكونا مكلفين قبل البلوغ والإسلام. فلا معنى لإلزامهما به على أن الكافر إذا أسلم فهو معفى من التكاليف الماضية، قال اللّه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
ولعلك تقول: كيف يكون شهود الشهر؟ فنقول: إن شهوده يكون برؤية هلاله، أو بالعلم أنه قد رئي، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم عند الحنفية.
واعتمد بعضهم الحساب، وقد روي في ذلك أحاديث كثيرة، بعضها يؤيد هذا، وبعضها يؤيد هذا:
فقد روي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له».
وكان ابن عمر إذا كان تسعا وعشرين نظر إليه، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب أصبح مفطرا، وإن لم ير وحال دون رؤيته سحاب أو قترة أصبح صائما، قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب. فأنت ترى أنه قد اعتمد الرؤية، ولم يعتمد تقديره. وهذا هو الموافق لظاهر قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وقد اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلّم: «فإن غمّ عليكم فاقدروا».
فقال بعضهم: اعتبار منازل القمر فإن كان في موقع القمر- ولو لم يحل دونه سحاب وقتر لرئي- ولم ير، يحكم له بحكم الرؤية.
وقال آخرون: فاقدروا له «فعدوا شعبان ثلاثين يوما» وقد جاءت أحاديث بالصيغة الأخيرة. ولو أوردناها لطال بنا القول، وموضعها علم الفقه، وكما يرجع إليه في هذا يرجع إليه في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه في إلزام جميع المسلمين الصوم.
{وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
قد تقدم شرح هذه الآية، غير أنهم قالوا: إن في الآية ما يدل على أنّ قضاء رمضان لا يجب فيه التتابع، وذلك لأن عدة جاء منكّرا غير معيّن، وذلك يقتضي جوازه مفرّقا، وأيضا فقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والتيسير لا يكون بإلزامه أن يصوم كله دفعة. أيضا قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فدل على أن المراد في القضاء هو صوم العدة، ولو غير متتابعة، ولو كان التتابع مشروطا لبينه كما بينه في الكفارة.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
بيّن اللّه تعالى فيما تقدم أنّ شرع الصيام لنا هو شرعة في الأمم، وأنا لم نكن بدعا فيه، وهو مع ذلك في زمن قليل {أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ} هي شهر رمضان، ومع ذلك فقد رخّص فيه لأولي الأعذار ومن لا يقدرون على صومه إلى عدة من أيام أخر، وإلى الفدية.
وفي هذه الآية يبيّن اللّه تعالى أنه فعل ذلك تيسيرا وتسهيلا علينا في التكاليف، فهو لم يكلفنا ما فيه إعنات لنا ومشقة علينا، فهل يجب في مقابلة ذلك إلا الشكر؟
وأصل اليسر في اللغة السهولة. معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار، لأنه يسهل به صعب من الأمور. والعسر ما يقابله.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: علّة لمحذوف، وللعلماء في هذا المحذوف وجهان:
الأول: ما ذهب إليه الفرّاء من أن التقدير: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فعل جملة ما ذكر، وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة بإباحة الفطر. وذلك أن اللّه لما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقبها ثلاثة ألفاظ، فقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} علّة للأمر بمراعاة العدة، وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا} علّة تعليم كيفية القضاء، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص والتسهيل. والحذف في هذا نظير الحذف في قوله: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75] أي أريناه ليكون. وأنت ترى أن الفرّاء على هذا يقدّر المحذوف متأخرا، ويجعل العلل مرتبة على سبيل اللف.
والوجه الثاني: ما ذهب إليه الزجاج من أن التقدير: أن الذي تقدم ذكره من تكليف المقيم الصحيح، والرخصة للمريض، والمسافر، إنما هو لإكمال العدة، لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرا، فبيّن اللّه تعالى أنه كلّف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرا، بل يكون سهلا يسيرا.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ} قيل: إن المراد منه التكبير ليلة الفطر. قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا.
وروي عن الزهري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنه كان يكبّر يوم الفطر إذا خرج إلى المصلّى، وإذا قضى الصلاة قطع التكبير».
وقد روي ذلك عن كثير من الصحابة.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في التكبير يوم الفطر في الطريق إلى المصلّى، فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: يكبّر الذي يذهب إلى العيد يوم الأضحى.
ويجهر بالتكبير. ولا يكبّر يوم الفطر، وقال أبو يوسف يكبّر يومي عيد الأضحى والفطر.
وليس فيه شيء مؤقت لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ}.
وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إن التكبير في العيدين ليس بواجب في الطريق، ولا في المصلّى، وإنما التكبير الواجب في صلاة العيد.
وذكر الطحاوي أن ابن أبي عمران كان يحكي عن أصحاب أبي حنيفة جميعا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن يكبّروا في الطريق إلى المصلّى، حتى يأتوه، ولم نكن نعرف ما حكاه المعلى عنهم.
وقال مالك والأوزاعي: يكبّر في خروجه إلى المصلّى في العيدين جميعا.
وقال الشافعي: أحبّ إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر.
وتكبير اللّه هو تعظيمه. والصيغة المأثورة فيه معروفة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على ما شرعت من الأحكام. وسهّلت لكم في أدائها.
قال اللّه تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}.
قد ذكروا في سبب هذه الآية وجوها:
منها أنّ أعرابيا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أو بعيد فنناديه؟
فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
ومنها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان في غزوة، وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا».
ومنها ما روي عن قتادة أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
ومنها ما روي أنه لما نزلت آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا وندموا وتابوا وسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: هل يقبل اللّه تعالى توبتنا؟ فنزلت.
وليس المراد بالقريب هنا قرب المكان. بل المراد القرب بالعلم، وما تقتضيه إجابة الدعاء.
هذا وقد قال بعضهم: إنّ الدعاء لا فائدة فيه، وذلك أن الأمر الذي يصدر بشأنه الدعاء. إمّا أن يكون في علم اللّه واقعا أولا. فإن كان الأول فهو لابد واقع، وإن كان الثاني فهو غير واقع لا محالة! والجمهور من العقلاء على أن الدعاء أهم مقامات العبودية، والأدلة النقلية على ذلك كثيرة.
منها هذه الآية التي معنا. ومنها قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ولولا أنّ الدعاء فضله عظيم ما طلبه اللّه منا، بل إنّ اللّه تعالى بيّن في آية أخرى أنه إذا لم يسأل غضب، فقال: {فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 43].
ومنها ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الدعاء مخّ العبادة».
وعن النعمان بن بشير أنه عليه الصلاة والسلام قال: «الدعاء هو العبادة» وقرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وأما ما قالوا: من أنه إن كان الأمر معلوم الوقوع فهو واقع إلخ: فنقول، إنما يكون ذلك لو علمت كيفية قضائه. أما وهما مغيّبان عنا، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد بين الرجاء والخوف. ولولا ذلك لما كان له فائدة، بل لما صحّ.
ثم إنّ الدعاء يقتضي أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة، وأنه القادر على كل شيء، والقاهر فوق عباده. وهل العبادة إلا المعرفة؟
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} معناه فليطلبوا إجابتي لهم بأن يجيبوا ما دعوتهم إليه من العبادة أجبهم إلى ما يطلبون، والاستجابة هنا: عبارة عن الاستسلام والانقياد.
والإيمان: الإذعان القلبي، ولما كان العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوّته إلا بتقديم الطاعة؟ قدّم اللّه الأمر بالاستجابة اهتماما بشأنها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} يهتدون في أمر دينهم ودنياهم. ومعنى الآية: أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا فقد اهتدوا، لأن الرشيد من كان كذلك.
قال اللّه تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.
{الرَّفَثُ} أصله قول الفحش: أنشد الزجاج:
وربّ أسراب حجيج كظّم ** عن اللّغا ورفث التّكلّم

ويقال: رفث في كلامه، وأرفث: إذا تكلم بالقبيح. قال اللّه تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. ثم نقل منه إلى ما كان منه بحضرة النساء مما ينم عن معنى الإفضاء، ثم جعل كناية عن معنى الجماع، وما يتعلق به.
{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} شبه كلّا من الزوجين باللباس. لأنّ كلا منهما يستر الآخر، فكان منه بمثابة اللباس.
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ يقال خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خان، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى شرّ. وخان الرجل الرجل إذا غدر به، أو لم يؤد إليه أمانته، وخائن العهد ناقضه، كما في قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً} [الأنفال: 58] قال صاحب الكشاف: والاختيان اسم من الخيانة، كالاكتساب اسم بمعنى الكسب، وفيه زيادة وشدة.
ذهب جمهور المفسرين إلى أنه في أول شريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كان الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات نهارا، لا يقرب شيئا منها بعد النوم ولا بعد صلاة العشاء الآخرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صلاة العشاء فقد ارتكب محرّما. ونسخ اللّه هذا الحكم بهذه الآية.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: ما كانت هذه الحرمة في شرعنا، بل كانت في شرع النصارى، واللّه تعالى نسخ بهذه الآية ما كان في شرع النصارى.
وقد استدل الجمهور لمذهبهم بوجوه:
منها: التمسك بالتشبيه في قوله تعالى: {كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
ومنها قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ} فإنه يقتضي سابق الحرمة.
ومنها قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فإنّ الأكل بعد النوم، وكذا الوقاع، لو لم يكن محرّما ما كان هناك معنى لتخوينهم أنفسهم، ولا لتوبة اللّه عليهم، ولا لعفوه، ثم إن قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يقتضي أنّ المباشرة كانت محظورة، وأبيحت بقوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}.
وقد ردّ أبو مسلم هذه الحجج بما نجمله فيما يأتي:
سبق أنه قال: إن هذه الحرمة كانت في شرع النصارى، وقد فهم الصحابة بقاء الحكم، فكانوا يمتنعون من الأكل والوقاع بعد النوم وبعد الصلاة الأخيرة، فبيّن اللّه بهذه الآية أنه قد خفف عن هذه الأمة وعفا عنها، فلم يوجب عليها ما أوجبه على الأمم السابقة، وأذن لها في تناول ما كان محظورا في الأمم السابقة.
وأنت تعلم أن ذلك يتوقف إلى حد كبير على ثبوت أن يكون ذلك كان شريعة للنصارى، وهو ما لم يثبت بعد، ثم هو مع ذلك مخالف لظاهر قوله: {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} وإن كان هو يتأوّلها بتنقيص شهواتها، بدليل إضافتها إلى النفس، وهو يقول: لو كان ذلك محرّما لكان خيانة للشرع لا للنفس، ولكن، أليست مخالفة أحكام الشرع خيانة للنفس، لأنّها تستوجب بها العذاب في الدنيا والآخرة.
ثم إنّ ظاهر قوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} مهما تأوله بالتخفيف، فإنه ظاهر في أنه لا يقال: خففت عن فلان إلا ما كان ثقيلا عليه.
نعم إنّ له أن يقول: إنّ من شأن هذا التكليف أن يكون ثقيلا علينا لو شرع، فإسقاطه عنا تخفيف.
ولكن نقول: هو احتمال، ولكن المتبادر خلافه، ونحن نقول بظاهر الآية لا بنصها.
ثم إنّ الأسباب التي ذكرت في نزول الآية تعاضد الذي ذهب إليه الجمهور:
منها ما روي أنّ رجلا- وفي اسمه خلاف- من الأنصار جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عشية، وقد أجهده الصوم، فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال: يا رسول اللّه-
عملت في النخل نهاري أجمع، حتى أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت، فنمت، فأيقظوني وقد حرّم الأكل، فقام عمر فقال: يا رسول اللّه أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام: «لم تكن جديرا يا عمر» وقام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا. فنزل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} أي الإفضاء إليهن.
{ولَيْلَةَ} نصب على الظرفية.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي علم اللّه أنكم كنتم تسرّون بالمعصية في الجماع بعد العتمة، والأكل بعد النوم، وترتكبون المحرم من ذلك، ومن فعل ذلك فقد خان نفسه، وخان اللّه ورسوله.
وأنت ترى أن فهم الآية على هذا الوجه يفيد أنّ الجماع والأكل قد وقعا ولو من بعضهم، ويؤيده ما رويناه في سبب النزول.
وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب، والجماع، وروى مثله الضحاك وابن أبي ليلى.
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أمر بفعل ما كان محظورا وقد قالوا: إنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، والإباحة ظاهرة هنا، لأنه لا معنى لإيجاب المباشرة، المباشرة هنا المراد منها الجماع، وهي مشتقة من ملاصقة البشرة البشرة، ومنه ما ورد من نهي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أن يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة.
وهو من أجل ذلك حقّه أن يتناول المباشرة غير الفاحشة، لكن سياق الآية وما يأتي بعد هذا قرينة على أنّ المراد هنا الجماع {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} والمراد منه الجماع، فكان الكلام فيه، وسنتكلم عليه عند قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ}.
{وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قيل: هو الولد، وقيل: ليلة القدر، وقيل: الرخصة. قال أبو بكر الرازي: فلما كان الكلّ محتملا فالأولى أن ينتظم اللفظ الكلّ، ويكون الكل مرادا حيث لا مانع، ويكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان، ولفعل الرخصة، وللولد، فإذا فعل العبد واحدا منها أو الكل قاصدا الثواب كان مأجورا على ما يقصده من ذلك.
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إطلاق من حظر، كما في قوله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} [المائدة: 2] {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} المراد منه: حتى يستبين النهار من الليل، وذلك يكون بظهور الفجر الصادق، وقد روي أنّ رجالا منهم أخذوا اللفظ على ظاهره، وحملوه على حقيقة الخيط الأبيض والخيط الأسود، وتبيّن أحدهما من الآخر. قال: كما روي عن عدي بن حاتم، لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرته فلما أتبين، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فضحك، وقال: «إنّ وسادك لعريض، إنما هو اللّيل والنّهار».
وقال عثمان: إنما هو الليل وبياض النهار.
وقد استبعد الفخر الرازي هذه الرواية على رجل مثل عدي بن حاتم، فإنه يبعد على أي رجل أن يفهم من هذا اللفظ أنّ المراد الخيط الأسود حقيقة مع قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} خصوصا، وقد كان هذا التعبير مألوفا عند العرب، وكان ذلك عندهم اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام. قال أبو دؤاد الإيادي:
ولمّا أضاءت لنا ظلمة ** ولاح من الصّبح خيط أنارا

ووجه تشبيه الليل والنهار بالخيطين أن الصبح أول ما يستبين، وتنجاب ظلمة الليل، يبدو الصبح رفيعا كالخيط. وبمقدار ما يظهر من خيط الصبح ينجاب خيط من الليل الأسود.
وقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما يفيد تحديد مدة الصيام: من الفجر إلى غروب الشمس، كالذي روي عن عبد اللّه بن سوادة القشيري عن أبيه قال: سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول: قال رسول اللّه: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا، حتى يستطير».
وبهذا يتبين بطلان ما زعمه الأعمش من أن للصائم أن يأكل ويجامع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهو غريب جدا. يزعم في توجيهه أنه لما كان الليل بغروب القرص يكون النهار بطلوع القرص، ويزعم أن المراد من الخيط الأبيض النهار، ومن الخيط الأسود الليل. ولا ندري ما الحكمة إذا من اختيار لفظ الخيط، وهل النهار عند طلوع الشمس يقال: إن بياضه كالخيط الأبيض! إن هذا لعجيب حقا؟
وأعجب منه زعم من زعم أنّ المراد من الخيط الأبيض طلوع الفجر حقيقة، ولكنه يرى أنه لا يحل الفطر إلا بعد وجود عتمة الليل وظلمته وظهور النجوم، لأنه فهم من قوله: {أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أن المراد الظلمة، وكأنّه لا يرى أن ما بين غروب الشمس ومجيء الظلمة من الليل.
والحمد للّه، انقرضت هذه المذاهب، وانعقد الإجماع على عدم العمل بها، فإنّه على فرض أن الآية تحتمل ما زعموا، فقد جاء في بيان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وعمله وعمل أصحابه ما فصل به الليل عن النهار، واستبان به وضح الصبح من ظلمة الليل.
هذا وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاكّ في الفجر، فذكر أبو يوسف في الإملاء أن أبا حنيفة قال: إن يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إليّ، فإن تسحر فصومه تام وهو قولهم جميعا في الأصل وقال: إذا أكل فلا قضاء عليه.
وحكى محمد بن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إن أكل وهو شاك قضى يوما مكانه، وقال أبو يوسف: ليس عليه في الشكّ قضاء.
وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إنّه إن كان في موضع يستبين به الفجر، ويرى مطلعه من حيث يطلع، وليس هناك علّة، فليأكل ما لم يستبن له الفجر، وهو قول اللّه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وإن كان في موضع لا يرى فيه الفجر، أو كانت ليلة مقمرة، وهو شاك، فلا يأكل، وإن أكل فقد أساء، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى، وإلّا لم يقض: وهذا قول زفر وأبي يوسف. قال أبو بكر الرازي: وبه نأخذ، وقال: ينبغي أن تكون رواية الأصل ورواية الإملاء في كراهيتهم الأكل مع الشك محمولتين على ما رواه الحسن بن زياد، لأنّه فسّر ما أجملوه، ولأنها موافقة لظاهر الكتاب.
وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر، فقال أحدهما:
طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فقال: اختلفتما وأكل، وكذلك روي عن ابن عمر.
والأصل في ذلك أنّ الآية جعلت حلّ الأكل ملغيّا بالتبيّن، وهو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أنّ ذلك إنما يكون عند عدم وجود المانع من حصوله، وذلك إذا كان في مكان يستطيع معه التبيّن، أما إذا كان في ليلة مقمرة، أو غيم أو في موضع لا يستطيع معه تحصيل العلم الحقيقي فهو مأمور بالاحتياط للصوم، فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه.
روى الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير- ولا أسمع أحدا بعده- يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».
وقال: أكره أن يأكل وهو شاكّ، وإن أكل فعليه القضاء، وقال الشافعي: إن أكل شاكّا في الفجر فلا شيء عليه.
هذا والآية تدلّ على جواز الإصباح جنبا في الصوم، وأن الجنابة لا تنافي الصوم، لأنّها تفيد حلّ الأكل والشرب حتى الفجر، والجماع كذلك، فلو لزمه غسل من الجنابة قبل الفجر لما كان هناك حل إلى طلوع الفجر، وقد أمره اللّه بإتمامه صومه إلى الليل، فلو لم يكن الصوم صحيحا لما أمره بإتمامه، وقد أجمعوا على أن الغاية هنا لإسقاط ما بعدها، وهي كذلك في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقد دخلت الغاية في حكم ما قبلها في بعض النصوص، كقوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وفي قوله: {إِلَى الْمَرافِقِ} وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] والمعوّل عليه في إثبات دخولها أو خروجها الدليل والقرينة.